مجتمعاتنا السرية
فيصل خالد الغريب
المستشار وخبير الاتصال البشري
@dr_faisalkhaled
تتمسك مجتمعتنا المحافظة بمصطلح مضلل يضمن السرية شبه المطلقة أو المشوهة ، ألا وهو ( الخصوصية ) ، و في واقع الأمر لا يوجد مجتمع بشري على وجه الأرض ، إلا ويتمتع بخصوصية تحدد معالم وجوده ذاك . فما مفهوم الخصوصية في مجتمعاتنا نحن ؟
نلجأ غالباً للسرية تجاه إخفاقاتنا في الحلول والمعالجة السليمة الصحيحة ذات الوجاهة المنطقية ، ونواجه بعض العلاجات المرة بمبدأ الخصوصية ذاك ، متجاهلين الألم الذي قد ينشأ في نهاية المطاف عن الإهمال ، وعندما يستصعب العلاج ونبلغ مرحلة اليأس أو البتر في أحسن الحالات .. نكون حالة ندم صامتة أيضاً .
حقيقة الخصوصية
تكمن خصوصيتنا فعلياً ، في كوننا المجتمع البشري الأمثل افتراضياً أو نظرياً ، وفقاً للمعطيات التالية :
١- لدينا ختام الوحي ، و هو دليل أصل معرفة الوجود وغايته .
٢- لدينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، هو موضح نظم علاقتنا بمفردات الحياة .
٣- نمتلك منهجية علمية وتاريخاً في المنجزات المعرفية الأصيلة .
٤- نتمتع بالقيم و الأخلاق ذات السمو والرقي الحضاري الإنساني .
هذا كفيل بأن نختص عن العالم أجمع بالحظ الوافر و الإمكانية شبه المطلقة لمعالجة كافة قضايانا جملة وتفصيلاً ، ما يعني أننا مجتمع خارق يفوق أي وجود بشري على وجه الأرض أو حتى خارجها إن كان .
واقع انعدام الثقة
إذا ما قارنّا موجودات مجتمعنا و إمكانياته المتاحة فعلياً ، ببقية المجتمعات الأخرى ، سنكتشف وبكل بساطة ، عامل فقد الثقة في قدرتنا على الريادة العالمية ، إذ لا يمكن لمن يمتلك كافة عوامل القوة و التمكين أن يتردد في استخدامها ، إلا إذا ما كان فاقداً للثقة في ذاته ، ويظهر هذا جلياً في التبرير المشهور ( نحن لسنا كالصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين .. الزمن اختلف ) .
في عصور مضت ، كانت الحضارة الإسلامية مضرب المثل بين سكان المعمورة ، وتفد إليها الوفود ، لكي تنهل من كنوز المعرفة في الحضارة العربية الإسلامية ، ودعنا لا ننسى عصر الجاهلية وبساطة المجتمع العربي البدائي ما قبل البعثة ، فالطفرة المعرفية و الحضارية التي أتى بها المسلمون لسكان كوكب الأرض ، خرجت من عقيدتهم وليس من ترابهم الأزلي .
فتخلينا عن منجزات الآباء والأجداد ، مؤشر خطير على فقدان الثقة في ذواتنا تجاه الحضارة البشرية الحالية ، التي تخطت الخيال و المنطق السائد .
عقبة الرعب
مجتمعاتنا تعيش حالة رعب غير مبرر من النجاح العلمي والمجتمعي ، ما ولد أجيالاً متتابعة في تبعية شبه مطلقة للغرب في انبهار الضعيف بالقوي ، على حساب صناعة المعرفة محلياً ، ما انعكس بشكل واضح على سلوكنا الاجتماعي في مقارنة انهزامية بين ما نعيشه من استهلاك معرفي واجتماعي وسلعي ، وبين ما يتمتع به العالم من صناعات وتقنيات و مفاخر مادية خالية من الروح الحية للمجتمع الصحي السليم .. إلا أنه نجاح من الصنف الذي ينقص مجموعتنا الحضارية .
مستوى التقدم البشري الحالي أرعبنا ، ما جعل من الكثيرين يطئطؤون الرؤوس في خيبة وانكسار ، أمام تلك الحضارة المادية التي لم تكن قادرة على الوصول إلى ما وصلت إليه اليوم دون المرور بعهد أمتنا الذهبي وحضارتنا الخالدة بخلود وجودنا ووجود آثارها الباقية في منتجات العلم والحضارة البشرية الحالية .
الأوهام هي من صنعت عقبة الرعب الذي وقفت مجتمعاتنا أمامها دون حراك يذكر أو يعول عليه ، فانجرت المجتمعات في طاعة وتبعية لنسيج المجتمعات الأكثر مادية كأنموذج للنجاح البشري الظاهر .
نجاح مشوه
إن المجتمعات المادية ، تعاني فراغاً روحياً واعتلالاً اجتماعياً مريراً ، وتتنافا قيمها المادية ، مع الطبيعة البشرية السوية ، لتمهد للكثيرين هناك طريق مغادرة الحياة عبر نافذة الانتحار أو الموت كمداً وقهراً وحسرة ، ولو على مقعد جلدي مذهب الأطراف .. تتميز المجتمعات الغربية بالمفاسد التالية :
١- ارتباك مفرط في حقيقة الوجود ووجود الخالق سبحانه ، وضمور الروح .
٢- فقدان لمعظم القيم الإنسانية وتغليب المصالح و العوائد .
٣- انتكاس الغرائز وتشوه المفاهيم السلوكية و الأخلاقية .
٤- البحث عن السعادة المفقودة .
٥- التفكك الأسري و غياب الأمن و التكافل المجتمعي في صورته الشاملة .
نماذجها المبهرة ، مسوخ نجاح تفتقر للإنسانية في تفاصيلها . وقائمة تطول ، إلا أن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق ، وللإنصاف .. فإن حسهم البشري المشوه ، لا يخلو من محاسن وجماليات ، نفتقر لها تطبيقياً في مجتمعاتنا ، فللكلاب هناك حقوق ينافسهم عليها القطط والثعابين وجملة من الحيوانات المدجنة ، وأنظمة سياسة بشرية تدعو للإعجاب ، وإتقان للصنعة قل نظيره في الوطن العربي والعالم الإسلامي ، ولكن الحكم هنا جاء على الجملة لا التفصيل ، وميزان العدل يقضي بالإنصاف ، فللغرب محاسنه التي لا يمكن إنكارها ، وسنتطرق لها في موضع لاحق .
مجتمعنا من الداخل
وعند ماقرنة مجتمعاتنا بمجتمعات الغرب ، فإننا نمتلك الأفضلية ، ولكن هذا ليس على إطلاقه ، فإننا لا نمتلك مقومات فعلية لا مجرد نظرية لقيادة العالم إنسانياً ، كما أننا لا نقدم أنفسنا على أننا أنموذج مشرف للبشرية جمعاء ، بل نكتفي بخصوصيتنا الغريبة ، متجاهلين فعلياً معظم ما يمزنا عن بقية المجتمعات من خصوصيات التفوق ، لو قمنا بتطبيقها عملياً !.
فمن المخجل مثلاً ، أن لا نكون قادرين على تصنيع ما يلزمنا في العادة ، اعتماداً على المواد الخام ، وفي أفضل الحالات ، فإننا في الجملة نعمل على تجميع مكونات اختراعات أفراد أو مجتمعات أخرى ، كما أننا وبعد مرور ألفية ونصف من الإسلام ، نعرض نماذج إخفاق اجتماعي فنعاقب المطلقات بعزلهن اجتماعياً ، أو نكمم أفواه ضحايا الابتزاز الجنسي ، في غرف انفرادية لبقية العمر ، ونغض الطرف عن شاذ هنا أو هناك خشية العار والفضيحة ، ونعاقب بعض الشريفات العفيفات تزويجهن صعاليك من شذاذ الآفاق بغية إصلاح فسادهم ببريئات غافلات ، كما أننا إما أن نتجاهل بعض شرائع الدين أو أن نستقلها ، فنفرط في العقاب ونبالغ في المصاب ، وبين هذا وذاك نشتغل عن تفوقنا الممكن ، بتوافه تلتهم علينا ساعات اليوم والليلة دونما إنتاج يذكر ، سوى الهذيان والثرثرة فيما لا يعني ، والتراشق بوجهات النظر ، والاعتماد على غيرنا لكي يدير لنا شؤوننا في مجتمعاتنا ، بينما نستمتع نحن بالمأكل و المشرب ، دون إعمال فكر يظهر كتسهيل حقيقي في حياتنا .
عامل النسبية و الفارق الزمني
في حقيقة الأمر ، فإن الأمر نسبي ، وهو آخذ في الميل نحو الإيجابية ، فالبلادة والكسل والخمول ، مظاهر آخذة في التقهقر أمام المبادرة والابتكار والتجديد والمعرفة و الواقعية ، فالخيال المجنح لأجيال مضت ، سواءاً أكانت في إطار السلب أو الإيجابية غير المبررة .. باتتب سمة للماضي القريب ، فتقنية المعلومات و ثورة الاتصالات لم تدع للبشرية فرصة سوى الاندماج والتفاعل ، واستعراض الخصائص المجتمعية على طاولة مستديرة ، لتجعل من الأحلام حقائق ملموسة ، بمبادرات فردية ، أو ضمن فرق صغيرة ، فيتجدد العالم بأسره ليعود شاباً في كل يوم جديد .
تدويل المنتجات
استطاع الاقتصاد الإسلامي أن يتربع على عروش بنوك أمريكية و أوروبية و آسيوية ، مدللاً على الكفاءة الأعلى في منظومة الاقتصاد الصحيح ، كما تمكن عدد من المسلمين العرب من إضافة الجديد للمعرفة البشرية في عصرنا في عدد من مجالات المعرفة العلمية ، مدللين على إمكانية الدخول في منافسة مفتوحة لو أتيحت الفرصة للعلماء و المخترعين لدينا بشكل حقيقي ، كما أننا عندما أمعنا النظر في تشريعنا الإسلامي الأصيل ، استطعنا أن تجاوز الكثير من المعضلات الاجتماعية التي يترنح أمامها القضاء الغربي والشرقي ، ويمكننا فعلياً تصديرها وبالمجان لسكان الأرض .
نعم نحن نمتلك فعلياً القدرة على تصدير القيم والأخلاق والعلم إذا ما أردنا ، وإن لم نرد نحن ذلك اليوم فسيذهب الله تعالى بنا وسيأتي بقوم آخرين ، يمتلكون الثقة في أنفسهم وسيعيدون النظر في إمكانيات مجتمعهم البشري ومقدراته وموجوداته ، وسيشاركون في رسم معالم حضارة البشرية في المستقبل .
و كن على ثقة بأنك قادر على إنتاج نماذج مشرقة للبشرية
السرية المزعجة
دعني أخصص أمر السرية في قضايانا الاجتماعية التي قد يتجاهلها معظم الناس ، متدرعين بستار السرية ، وقد ذكرت لك آنفاً ثلاث صور من عورات المجتمع الخفية ، التي يتحاشاها معظم الناس لتستفحل كقضايا ساخنة تحت الرماد .
فالمطلقات كمثال هن ضحيا فكر مريض للمجتمعات التي تنبذ المطلقة ، لتعميم الاتهام لها بأنها ذات نقص من نوع ما ، وإلا لما طلقت ، وهذا يتنافى مع العلم والمنطق ، فالشريعة كعلم صممت الطلاق كنموذج إجرائي للانفصال عند الضرورة ، بينما يقتضي المنطق التغيير إذا كانت الخيارات المتاحة لا تقود لنتيجة توافق ، وهذا كل ما في الأمر .. بينما تتحول المطلقة أشبه ما تكون إلى ( مواطن من الدرجة الثانية ) وتدفع نحو التنازل عن كثير من حقوقها الإنسانية ، ولي وقفة مع عالم المطلقات الخفي في مكان آخر ، إلا أن مجتمعاتنا لا تتحرك بجدية تجاه تصحيح النظرة الإنسانية للمطلقات .
أما المثال الثاني ، فهو الابتزاز والتحرش الجنسي ، وهي عملية خفية تتستر عليها الضحية خشية العقاب ، وذووا الضحية خشية الفضيحة ، والجلاد ذاته استمتاعاً بالخصوصية التي أخاطه المحتمع بعا دون علم ، ما يجعل الأمر عصياً على الحل في معظم الحالات ، وهذا أمر مقلق للغاية ، ويستدعي إعادة نظر وتدقيق في إطباق ستار السرية على الضحية التي تعاقب على جرم لم تفعله أو جراء خطأ غير مقصود أو بعد رغبة جادة في الخروج من المأزق ، ما يضطر الجهات المعنية إلى معالجة قد لا تؤتي ثمارها المرجوة ما لم تتعاون الأسرة و المجتمع في ذلك .. وهذا موضوع اجتماعي حساس صنفنا فيه مصنفات ومنتجات خاصة يمكنك الرجوع إليها لاحقاً .
أما المثال الثالث فهو أيضاً أمر بالغ الحساسية ، فانتكاس الفطرة و الشذوذ ، لا يعد مرضاً نفسياً بل خياراً سلوكياً ناتج عن التأثر بمجتمعات غربية وشرقية ، لا تضبطها قيم و لا يردعها وازع ، فالتجربة هناك عبر العصور أورثت تكتلات مجتمعية شاذة ، تسوق لأخلاقياتها السافلة عبر الإعلام بأروع الصور والنماذج الحياتية الدنيوية ، ما حدى ببعض الجهال بتتبع آثارهم متأثراً بموجات ضخمة من المسوغات السنمائية والإعلانية والكرتونية ، لتتورط مجتعاتنا بمسوخ شاذة لا يدور في عقولهم سوى غرائز منحرفة ، تطحن حياتهم وتفسد آخرتهم ، وبدلاً من مواجهة الأمر علمياً واجتماعياً ، نتكتم على الأمر متجنبين الحلول .. ولهذا وقفة خاصة نرجؤها لحينها .
الستر لا التستر
نعتمد دينياً وثقافة مجتمعية أصيلة ، مبدأ الستر .. إلا أن خللاً ما حاد بالمجتمعات بالجملة ، إلى التستر الذي يخفي المرض الفكري أو السلوكي أو حتى الاعتقادي ، تحت ستار يعزل الحقيقة عن الواقع ، وهما في المكان نفسه !.
العلاج الذاتي
مجتمعاتنا تمتلك القدرة على العلاج الذاتي ، فمكونات التفوق التي ذكرتها آنفة ، لا ينقصها إلا أن تتبناها أنت في نفسك ، وأنت جزء له أثره الفعلي في المجتمع فسلبيتك تميته ، و إيجابيتك تحييه ، ولست في حاجة هنا لأطيل في إيضاح قدرتك كفرد عليك أن تمارس حياة إيجابية تنعكس على من حولك للتتالى موجات الإيجابية هنا وهنا ، فالأمثلة الرمزية السابقة ، لا يمكنها أن تستقر في مجتمع إيحابي صحيح التركيب ، ولكنها تترعرع في هدوء في المجتمعات السلبية الخاملة .
وحيث أنك من الوعي بمكان ، لكي تصل إلى نهاية هذا العرض الفكري ، فإنني أعدك بمزيد عرض وتفصيل ، في بناء الخطوات العملية لتشكيل شخصية إيجابية ومجتمع صحي نشط نابض بالحياة .
التوقيع
لأنك تمتلك زمام المبادرة ، فأنت مفتاح التغيير للأفضل



