حَكَمٌ و حُكْم
فيصل خالد الغريب
المستشار وخبير الإتصال البشري
@dr_faisalkhaled
الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، والحكم على الأشخاص و الإحاطة بجوانب تكوين شخصياتهم في كافة سياقاتها في كل ما يلي :
1- محيطهم البيئي الذي تنعكس بصماته على كافة مكوناتهم الشخصية ، عبر انسجامهم أو تكيفهم الاضطراري .
2- نمطهم السلوكي السائد بعيداً عن خصوصية السياقات والاستثناءات الظرفية .
3- قدراتهم ومهاراتهم الشخصية في الأداء العام و الخاص ، ومحتواهم العلمي وأدائهم العقلي .
4- هويتهم الشخصية العامة التي تمثلهم في هذه الحياة ، أو وسط مجتمعهم الذي يعايشونه على أقل تقدير .
5- قيمهم العليا ومعتقداتهم الراسخة عن العالم والحياة والمكونات الداخلية والخارجية .
6- دوافعهم الإيمانية المرتبطة بصِلاتهم الروحية والتي تؤطر كافة مستويات أدائهم الذهني و الانفعالي السلوكي في محيطهم المنظور وغير المنظور .
والإحاطة بتلك الجوانب التفصيلية غير ممكن البتة ، وكل ما يملكه الناس هو الحكم الظرفي المرتبط بالمواقف ، خاصة إذا ما افتقروا إلى مبادئ ومقومات تحليل الأنماط الشخصية وسياقاتها ومستوياتها المتعددة لغياب التخصص .
من الأخطاء الشائعة أن نحكم على الأشخاص بناءاً على موقف أو افتراض ظني لا يستند إلى أصل ثابت في ذات المحكوم عليه ، كما أنه لا ينبغي البناء على الأحكام الشخصية و اعتمادها كأصل للمعاملة وتعميم الحكم على كافة السياقات والظروف المحيطة بالمحكوم عليه ، ولا شك أن هذا مسلك يفتقر للمنهجية العلمية الصحيحة .
للخبراء خطوات مرحلية وتكرارات متعددة ورصد دقيق لمؤشرات خاصة ، تقودهم لحكم يغلب فيه الظن أو يتطابق في حالات محددة ، بينما لا يتورع البعض من المتطفلين في إطلاق الأحكام على الناس ، بل ومحاكمتهم علنياً كمتهمين بما لم يقترفوا سوى جرأة في الحكم من قبل طفيلي فظ أطلق العنان لنفسه .
وعلينا أن نفرق ما بين الحكم على الشخص المعين بذاته ، والحكم على سلوك تام الأوصاف يمارسه جمع كثير من الناس يصعب حصرهم ، فالكفر بالله مثلاً فعل له صفة دقيقة عند أهل العلم ، ولكن لا يمكن لكل من هب ودب على وجه الأرض أن يحكم بكفر فلان بعينه ، فهناك ضوابط لهذا الحكم منها أن يكون قاضياً مخولاً و أن يستنطق المتهم بالكفر أو الردة ، بحثاً عن علة وقوعه فيه و رغبة في رجوعه عنه ، خشية التأول أو الجهل ، بينما يمكنك الحكم بأن الكافر في نار جهنم قطعاً دون غضاضة أو تحفظ ، و سبب الإطلاق العام يكمن في عدم تعيينك لذات وشخصية محددة ، والأمر ينطبق مع شيء من الفارق في حكمك على فلان بأنه نرجسي أو متعالٍ أو مراءٍ أو مخادع أو بخيل أو طماع أو نفعي أو حتى مختص أو عالم أو فقيه أو حكيم ، ولربما أمكنك الحكم في نفسك مع التحوط والتحفظ ، إلا أنه لا ينبغي لك مطلقاً إطلاق حكم عام على عين شخص بتلك الأحكام والصفات دون برهان قاطع ، فقط لكونك تظن ذلك أو لموقف محدد ساقك لهذا الظن .
في إطار العلاقات الاجتماعية ، لا نتمكن غالباً من تعقب سلوك الآخرين في سياقات أخرى أو في ظروف متنوعة أو بيئات مختلفة ، ولكننا نأخذ انطباعاً حكمياً عاماً مشوهاً ومنقوصاً ويفتقر للكمال في مكوناته ، ونحتفظ به كرافد تقدير جزئي للحكم على الطرف المقابل بناءاً – فقط – على ما أمكننا الاطلاع عليه من جوانب شخصيته المتعددة ، وهذا الحكم الذاتي لا يخرج عن الظن إلا في حالة واحدة ، ألا وهي التحقق من الشخص ذاته و إشهاده على نفسه بالإقرار بالصفة أو التهمة أو استصناع الدليل ضده ، وهذا متعسر ولا يتم إلا في حدود ضيقة للغاية تحفها الكثير من المخاطر النفسية والاجتماعية ولا يحسنها إلا أهل الاختصاص .. ولعله ﷺ أراد بيان هذا فقال لصحابي قتل مشركاً في معركة بعد نطقه بالشهادة ، فتأول أنه يتقيه بهما ليحقن دمه وينجو بنفسه ، ففسر القاتل علة قتله بـ ( إنما قالها اتقاءاً ) فرد عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم قائلاً ( أفلا شققت عن قلبه ) ، وواقع الحال أننا لسنا في موضع الاطلاع على نوايا الآخرين ولا مقاصدهم أو الكشف عن مكنونات صدورهم ومحاسبتهم على غيب ، فضلاً عن نقصنا وقصورنا عن الإحاطة بظرفية سلوكهم في ذلك السياق وغيره .. فإن شككت فاسأل و لا تحكم بظن على متهم لم تستنطقه ولم تستجوبه ، ثم تعرض وتصرح به على ملأ !.
وجرت العادة الحكمية عند كثير من الناس ، أن يصفوا الموصوف بوصف خارج عنه و داخل غيره فيه ، ومثال ذلك وهو مشهور بين عامة الناس ، وصف العارض بالمتكبر ، والعارض هنا المنجز ، يصنع الشيء فيعرضه على ملأ ، فيقال : ما عرضه إلا فخراً ومباهاة فهو متكبر ، ومعلوم بأن صفة العرض ليست صفة التكبر التي يرد فيها المرء الحق ويهين غيره ، فذاك شيء وهذا آخر ، وعلى هذا فقس في أوصاف القدح والاتهام أو التمادح و التنعيت ، ما بين الناس ، ومرد ذلك لقصور شخصي من جهل أو قلة علم أو عداء مضمر ، أو ورود خارجي على قلب خالٍ فتمكن منه السوء ، وهي دوافع النفس و نزغات شياطين ، والمؤمن يبدأ إيمانه بالعلم ثم الاستقامة على الحق ، فيكون وقّافاً عند حدود نفسه فلا يتم حكماً جازماً إلا على نفسه دون غيره ، ويكون في الناس ناصحاً على ستر وتورية .. فتسهل حياته وينجو من شقاء دنياه وآخرته بإذن الله تعالى .